الخميس، 20 فبراير 2014



[أقسام الأنفس]
وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة، ومطمئنة، ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] (سورة الفجر: الآيات 27 - 30) . والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون: تارة كذا، وتارة كذا، وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا.
ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط.
ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا، ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى.
فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] (سورة الشورى: من الآية 15) .
وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها، فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله! فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء منجذب إليه. فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم.
وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم، وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبة لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب، قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] (سورة البقرة: من الآية 109) . وقال تعالى في المنافقين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] (سورة النساء: من الآية 89) . وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن.
والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور، كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد، وقد يختارونها في النوع، كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها.
وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر، فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أو لا ينتهي إلى حد الإكراه، ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به، وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى، وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه، وهذه حال غالب الظالمين القادرين.
وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (سورة البقرة: من الآية 165) . فإن داعي الخير أقوى، فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم، والصدق والعدل، وأداء الأمانة، فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر، لا سيما إذا كان نظيره، لا سيما مع المنافسة، وهذا محمود حسن، فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ويبغضه إذا لم يفعل، صار له داع ثالث، فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع.
ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفوسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات، وهذه أربعة أنواع:
ويؤمر أيضا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] (سورة العصر: الآيات 1-3) . وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لو فكر الناس كلهم في سورة: " والعصر ". لكفتهم. وهو كما قال، فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا، ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر، وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة» وحينئذ فيحتاج من الصبر مالا يحتاج إليه غيره، وذلك هو سبب الإمامة في الدين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (سورة السجدة: آية 24) .
فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر.
ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذي به، وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يا أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرا من العافية، فسلوهما الله»  وكذلك إذا أمر غيره بحسن أو أحب موافقته على ذلك، أو نهى غيره عن شيء، فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصوده، من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو، لا يمكن غير ذلك، ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب، حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (سورة الأعراف: آية 199) . وقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] (سورة البلد: من الآية 17) . فلا بد أن يصبر وأن يرحم، وهذا هو الشجاعة والكرم.
ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق، وبينهما وبين الصبر تارة، ولا بد من الثلاثة: الصلاة، والزكاة، والصبر، لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك، في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق