الجمعة، 21 فبراير 2014



[ذم البخل والجبن]
ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله الأعراب، حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه، فالتفت إليهم وقال: «والذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» لكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيله دون ما ليس في سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» وقال: «من سيدكم يا بني سلمة؛ فقالوا الجد بن قيس على أنا نزنه بالبخل فقال: وأي داء أدوأ من البخل؟» وفي رواية: «إن السيد لا يكون بخيلا بل سيدكم الأبيض الجعد البراء بن معرور» وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني! فقال تقول: وإما أن تبخل عني! وأي داء أدوأ من البخل؟ فجعل البخل من أعظم الأمراض.
وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال: قال عمر: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما فقلت: يا رسول الله! والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال: «إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش وبين أن يبخلوني، ولست بباخل» يقول: إنهم يسألوني مسألة لا تصلح، فإن أعطيتهم وإلا قالوا: هو بخيل، فقال: خيروني بين أمرين مكروهين لا يتركوني من أحدهما: الإفحاش والتبخيل. والتبخيل أشد، فأدفع الأشد بإعطائهم.
والبخل جنس تحته أنواع: كبائر، وغير كبائر، قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (سورة آل عمران: من الآية 180) . وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] (سورة النساء: من الآية 36) . إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 36 - 37] (سورة النساء: من الآيتين 36 و 37) . وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] (سورة التوبة: آية 54) . وقال: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 76 - 77] (سورة التوبة: آية 76 ومن الآية 77) . وقال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] (سورة محمد: من الآية 38) . وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ - وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] (سورة الماعون: الآيات 4-7) . وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 34 - 35] (سورة التوبة:من الآيتين 34، 35) .
وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك: كله ذم للبخل، وكذلك ذمه للجبن كثير، مثل قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] (سورة الأنفال: آية 16) . وقوله عن المنافقين: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ - لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56 - 57] (سورة التوبة: الآيتان 56، 57) . وقوله: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] (سورة محمد: من الآية 20) . وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] (سورة النساء: الآية 77) .
وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له، كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39] (سورة التوبة: الآيتان 38، 39) . وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] (سورة محمد: آية 38) . وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل السابقين، فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (سورة الحديد: من الآية 10) .
وقد ذكر الجهاد بالنفوس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه، فقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] (سورة البقرة: من الآية 249) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] (سورة الأنفال: الآيتان 45، 46) .
والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق