الاثنين، 24 فبراير 2014



[أصناف الناس في الشجاعة]
والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله، كما في الصحيح عن أبي موسى قال: قيل: «يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقد قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (سورة الأنفال: من الآية 39) . وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (سورة الذاريات: آية 56) . فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودا عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه، وهذه الأعمال الصالحات.
ولهذا كان الناس أربعة أصناف: من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة. ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق، ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك، ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة.
فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموما، وخصوصا في أوقات المحن والفتن الشديدة، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضي للفتنة عندهم، ويحتاجون أيضا إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيرا على من يسره الله عليه. وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] (سورة الحج: من الآية 40، وآية 41) . وكما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] (سورة غافر: آية 51) وكما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] (سورة المجادلة: آية 21) . وكما قال: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] (سورة الصافات: آية 173) .
ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) . وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: «هل لك في نساء بني الأصفر» ؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فأذن لي ولا تفتني، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر، وجاء فيه الحديث: «إن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فأنزل الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) .
يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء، فهذا وجه قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) . يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؛ والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (سورة الأنفال: من الآية 39) . فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق