السبت، 22 فبراير 2014



[الصبر على المصائب]

وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر، فإنه لا بد منه. والصبر صبران: صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة، كما قال الحسن: ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم.
والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب الذي لا يولد له، قال: ليس ذلك بالرقوب! ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا، ثم قال: ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال فقال: ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب» فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب، قال الله تعالى في المصيبة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156] (سورة البقرة: من الآية 155، وآية 156) . وقال الله تعالى في الغضب: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] (سورة فصلت: آية 35) .
وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11] (سورة هود: الآيات 9 - 11) . وقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] (سورة الحديد: من الآية 23) . وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال:
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
وكذلك قال حسان بن ثابت:
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
وقال بعض العرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر.
ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال لما قيل له وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع: أتبكي؟ أولم تنه عن البكاء؟ فقال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية» فجمع بين الصوتين.
وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى جاهلية» وقال: «أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة» وقال: «ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان» وقال: «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه» وقال: «من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه» واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن، وقال: «إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران»
وقال في الغلبة والمصائب والفرح: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان» وقال: «لا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا» إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان، اتباعا لقوله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (سورة البقرة: آية 190) .
ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب، والشرب في آنية الذهب والفضة، وإطالة الثياب، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم، وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وجعل فيهم الخسف والمسخ، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (سورة النساء: من الآية 36) . وقال عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] (سورة القصص: من الآية 76) . وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب.
وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه، وبين ما يبغضه ويكرهه، فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته، ويدفع الثاني ببغضه ونفرته، وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحا وسرورا، وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن، فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين: الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحا فخورا، والصوت الذي يوجب الجزع.
وأما الصوت الذي يثير الغضب لله، كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة، فتلك لم تكن بآلات، وكذلك أصوات الشهوة في الفرح، فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان.
وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة، وهي التشبيب، وأشعار الغضب والحمية، وهي الحماسة والهجاء، وأشعار المصائب كالمراثي، وأشعار النعم والفرح، وهي المدائح. والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 225 - 226] (سورة الشعراء: الآيتان 225، 226) . ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون، والغاوي: هو الذي يتبع هواه بغير علم، وهذا هو الغي، وهو خلاف الرشد، كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 - 2] (سورة النجم: الآيتان 1، 2) . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة، إذ كان عدم هذين مذموما على الإطلاق، وأما وجودهما، فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق، لكن العاقبة في ذلك للمتقين، وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة، والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضا، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة:
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] (سورة هود: آية 48) . إلى قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] (سورة هود: من الآية 49) . وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: من الآية 194) .
والفرقان: أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين، وذمه شين، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم، ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حمدي زين وذمي شين! قال له: «ذاك الله»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق